الهويّة بين التّعريف الشّامل والانتقاء من اجل الطمس والتبديل

والحقيقة أنّ هذا الكلام فيه الغثّ والسّمين، ويجعله البعض ذريعة للتّبديل على جهة دسّ السّم في العسل. ونُفصِّل ذلك بتذكير وتصويب:
أمّا التّذكير فهو أنّ الهويّة ليست بطاقة تُطبَعُ وتُختَم لا تتبدّل ولا تتغيّر إلاّ إذا استُبدلت بأخرى من الجهة المُصدِرة المُختصّة! إنّما الحقيقة هي أنّ الهويّة نتاج أفكار وقيم ومعاني وتفاعلات مع المحيط وتدافُع بين الأبناء وإسقاطات في السّلوك والمُمارسات. وهي ملك الأمّة قاطبة ولا يحقّ لجهة دون جهة أو طائفة دون طائفة أو حتّى جيل دون جيل أن يُنصِّب نفسه ناطقا حصريّا أو مُنظِّرا وحيدا فريدا لأي مسألة من مسائلها. ومن هنا نقول أنّ ما نتوهّمه شاذّا من تداخل أو تفاعل مع المحيط أو من الغازي أو من أبناء الأمّة إنّما هو أحد روافد هذه الهويّة شئنا أم أبينا، والأمّة القويّة تملك من أدوات الحماية والتّحصين ما يُمكّنها من التّأقلم والتّطور دون المساس بمعالم الهويّة الأصيلة. وإن كان ولابدّ من المقاومة، فإنّ على النّخبة أن تجدّد من أسلحتها للتّنقية والتّصفية لا أن تُمزِّق صحفة من صفحات تاريخها والتّأسيس لهويّة مزعومة جديدة.
وأمّا التّصويب فهو أن الدّعوة للتّأسيس إنّما هي عين الغزو الفكري والحضاري، وما هي إلا غطاء مبهرج لدمج الأمّة في هويّة أخرى وتحويلها إلى مسخ لا وجه له. إذ كيف لنا أن نؤسّس لشيء لا نملك منه إلّا النذر اليسير، فغالبه إرث الأجداد والطبائع البلاد وما لنا منه إلّا التوجيه إمّا للخير أو للشرّ؟ فهل يُعقل أن نؤسّس تاريخا وطبائعا وبلادا جديدة؟ لهذا كان التّأسيس بما يدّعيه البعض من بني جلدتنا مجرّد واجهة خدّاعة لدمجنا في هويّة أخرى! ولك أن تتخيّل أمّة تدرس تاريخ غيرها، وتتكلّم لغة غيرها، وتدافع عن قيم غيرها، وتَتَطَبَّع بقيم غيرها.. هل يمكن أن تكون أمّة سويّة؟ وهل يمكن لهذا الغير أن يقبلها أصلا وإن انسلخت من جلدتها أم أنه سيقبلها عبيدا وإماء ووعاءا بشريا لأسواقه وحروبه وتجاربه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق